التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
على الرغم من المركزية النسبية لإدارة عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا أنه كان يعطي مساحة كبيرة للولاة إذا اطمئن لقدراتهم.
على الرغم من المركزية النسبية لإدارة عمر إلا أنه كان يعطي مساحة كبيرة للولاة إذا اطمئن لقدراتهم: روى الطبري بسند ضعيف لكن له شواهد من سيرة عمر أن عمر قال لمحمد بن مسلمة: "إِنَّ أَكْمَلَ الرِّجَالِ رَأيًا مَنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ صَاحِبِهِ عَمِلَ بِالحَزْمِ، أَوْ قَالَ بِهِ، وَلَمْ يَنْكُلْ[1]".
مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
كانت المساحة المعطاة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كبيرةً للغاية، إلى درجة أنَّ عمر رضي الله عنه كان يسمح له بأمورٍ لا يراها صوابًا وإن لم تكن حرامًا، وذلك قناعةً منه بخبرة معاوية رضي الله عنه وقدراته. من ذلك الموقف الذي رواه ابن أبي الدنيا، وفيه: «لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الشَّامَ تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ الْمَوْكِبِ الْعَظِيمِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَعَ مَا بَلَغَنِي مِنْ طُولِ وُقُوفِ ذَوِي الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ؟ قَالَ: مَعَ مَا بَلَغَكَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّا بِأَرْضٍ جَوَاسِيسُ الْعَدُوِّ فِيهَا كَثِيرَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ مَنْ عِزِّ السُّلْطَانِ مَا يُرْهِبُهُمْ بِهِ، فَإِنْ أَمَرْتَنِي فَعَلْتُ، وَإِنْ نَهَيْتَنِي انْتَهَيْتُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ، مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا تَرَكْتَنِي فِي مِثْلِ رَوَاجِبِ الضِّرْسِ[2]، لَئِنْ كَانَ مَا قُلْتَ حَقًّا، إِنَّهُ لَرَأْيُ أَرِيبٍ، وَلَئِنْ كَانَ بَاطِلًا إِنَّهُ لَخَدِيعَةُ أَدِيبٍ. قَالَ: فَمُرْنِي يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ! فَقَالَ رَجُلٌ[3]: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا أَحْسَنَ مَا صَدَرَ الْفَتَى عَمَّا أَوْرَدْتَهُ فِيهِ! فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لِحُسْنِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا جَشَّمْنَاهُ»[4]!
مع عمرو بن العاص رضي الله عنه
كانت المساحة المعطاة له كبيرةً للغاية، ولم يمنع ذلك ردَّه عن بعض القرارات، أو محاسبته عند بعض الأخطاء، وهذا هو التوازن المنشود في مثل هذه الأمور، والقضايا التي ردَّ فيها عمرُ واليه عمرو بنَ العاص عن بعض الأعمال محدودة، وحَصْرُها يعني أن الأصل هو إعطاء المساحة الكبيرة له للعمل.
مثال جميل يوضِّح المرونة الإدارية عند عمر: خطط الجيزة
ليس عنده مانع من مخالفة رؤيته الإدارية مع قناعته أنها أصوب!
فاستحبّت همدان ومن والاها الجيزة، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يعلمه بما صنع الله للمسلمين. وما فتح عليهم، وما فعلوا في خططهم؛ وما استحبّت همدان ومن والاها من النزول بالجيزة.
وكان عمرو قد تركهم للحماية من مباغتة الروم، ومن ثم استدعاهم بعد الفراغ من الفسطاط، ويقال إن سبب التسمية أن همدان اجتازوا النيل إلى الناحية الأخرى، فسميت جيزة، أو أنها جزاءٌ لهم على موقفهم المتقدِّم.
فكتب إليه عمر، يحمد الله على ما كان من ذلك، ويقول له: كيف رضيت أن تفرقّ عنك أصحابك، لم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينهم وبينك بحر، لا تدري ما يفجؤهم فلعلّك لا تقدر على غياثهم حتى ينزل بهم ما تكره. فاجمعهم إليك فإن أبوا عليك، وأعجبهم موضعهم. فابن عليهم من فيء المسلمين حصنًا.
فعرض عمرو ذلك عليهم فأبوا، وأعجبهم موضعهم بالجيزة ومن والاهم على ذلك من رهطهم؛ يافع (يافع بن زيد) وغيرها، وأحبّوا ما هنالك، فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن الذي بالجيزة في سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين وعشرين.
كانوا لا يرغبون في الحصن أنفةً، وقالوا ليس هناك أحصن من سيوفنا!، وقال غير ابن لهيعة من مشايخ أهل مصر: إن عمرو بن العاص لّما سأل أهل الجيزة أن ينضمّوا إلى الفسطاط، قالوا: متقدّما قدّمناه في سبيل الله ما كنّا لنرحل منه إلى غيره.
مع نافع بن عبد الحارث رضي الله عنه:
في صحيح مسلم عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ[5]، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى[6]، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»[7].
مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
اعطي عمر رضي الله عنه مساحة كبيرة لسعد بن أبي وقاص في تأسيس مدينة الكوفة من حيث تحديد مكان الكوفة، وطريقة البناء، وكان السبب في تأسيس مدينة الكوفة هو حالة الترف التي أصابت المسلمين حين عاشوا في عاصمة الفرس المدائن. لاحظ ذلك عمر رضي الله عنه في هيئة الوفود التي تأتي له منها، كما لاحظ ذلك الصحابة الذين قطنوا هناك، حتى أرسل إليه حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: «إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ أُتْرِفَتْ بُطُونُهَا، وَخَفَّتْ أَعْضَادُهَا، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهَا». فأرسل عمر رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسأله عن سرِّ ذلك قائلًا: «أَنْبِئْنِي مَا الَّذِي غَيَّرَ أَلْوَانَ الْعَرَبِ وَلُحُومَهُمْ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «إِنَّ الْعَرَبَ خَدَّدَهُمْ وَكَفَى أَلْوَانَهُمْ وُخُومَةُ[8] الْمَدَائِنِ وَدِجْلَةَ»، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «إِنَّ الْعَرَبَ لا يُوَافِقُهَا إِلا مَا وَافَقَ إِبِلَهَا مِنَ الْبُلْدَانِ، فَابْعَثْ سَلْمَانَ رَائِدًا وَحُذَيْفَةَ فَلْيَرْتَادَا مَنْزِلا بَرِّيًّا بَحْرِيًّا، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِيهِ بَحْرٌ وَلا جِسْرٌ»[9].
بحث الصحابيان الكبيران سلمان وحذيفة رضي الله عنهما عن المكان المناسب فوجداه في أرض ذات حصباء ورمل، والعرب يُسَمُّون مثل هذه الأرض كوفة[10]، فاستقرَّا عليها، ووافقهما سعد رضي الله عنه، فتم تخطيط المدينة هناك، وهو موقعها المعروف اليوم شرق مدينة النجف مباشرة، وصارت بذلك الكوفة هي قاعدة المسلمين الرئيسة في العراق، وبها مراكز القيادة وبيت والي العراق سعد رضي الله عنه، وانتقلت إليها معظم القبائل العربية، وسرعان ما توسَّعت المدينة، وصارت أهمَّ مدن العراق آنذاك، متبوعةً بالبصرة التي أسَّسها عتبة بن غزوان رضي الله عنه قبل ذلك بقليل.
مما يُذْكَر أيضًا بشأن طريقة بناء بيوت المدينة أنها كانت قد بُنِيَت في البداية بالقصب (الغاب)، فحدث حريق التهم معظم بيوت المدينة فاستأذنوا عمر رضي الله عنه في البناء باللبن (الطين) فوافق[11]، ولكنه نصح بلزوم الزهد، والبعد عن الترف، فقال لهم: «وَلا يَزِيدَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى ثَلاثَةِ أَبْيَاتٍ، وَلا تُطَاوِلُوا فِي الْبُنْيَانِ، وَالْزَمُوا السُّنَّةَ تَلْزَمْكُمُ الدَّوْلَةُ»[12]!
حرص عمر على تحقيق مصلحتين: شرعية وسياسية
كان عمر رضي الله عنه شرعية بالبعد عن الترف، وبلزوم السُّنَّة في طريقة البناء وسياسية ببناء المدينة في منطقة لا تفصلها عن المدينة أنهار أو بحار، وغير ذلك منح الولاة في العراق كامل الحرية في اختيار المكان، وتخطيط المدينة، وبناء المساكن[13].
[1] لم ينكل: أي لم يمتنع عن العمل
[2] الرواجب: جمع راجبة: وهي ما بين الأصابع من الداخل. والمقصود: تركتني في مساحةٍ أضيق من أصول الضرس يصعب عليَّ الخروج منها.
[3] في روايةٍ أنَّ هذا الرجل هو عبد الرحمن بن عوف. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية، 11/416.
[4] ابن أبي الدنيا: حلم معاوية، ص19.
[5] نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ: صحابي خزاعي من مسلمة الفتح.
[6] ابْنَ أَبْزَى: مختلف في صحبته، وهو على الأرجح من التابعين، وهو من الثقات.
[7] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها و علمها (817).
[8] الوخومة: هي الهواء غير الصحي، أو هي التخمة من الطعام، وفي كلام سعد t نجد المعنيَيْن متواجدَيْن.
[9] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 4/40، 41.
[10] البَلَاذُري: فتوح البلدان، ص271.
[11] ابن الأثير أبو الحسن: الكامل في التاريخ، 2/353، 354.
[12] أبو عبيد البكري: المسالك والممالك، 1/427.
[13] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: المرونة الإدارية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
التعليقات
إرسال تعليقك